العالم الفرنسي الكبير ( جان بوتيرو – jean bottero) هو واحد من ابرز العلماء المتخصصين في اصول وتأريخ حضارة وادي الرافدين التي نشأت في العراق وتعتبر اقدم حضارة انسانيه عرفتها البشريه كلها .. كتب هذا العالم المتميز مؤخرا كتابا مهما هو الاول من نوعه عن الطعام والطبخ العراقي في العهد القديم ( السومري والأكدي ) ... والكتاب الذي اصدره العالم بوتيرو يحمل عنوان (نصوص مطبخيه نهرينيه) تحتوي هذه النصوص على شواهد ورقم تعود الى العهد السومري والاكدي في العراق كلها تتحدث عن الطعام والطبخ العراقي القديم في ذلك العهد وهي تقريبا نفس انواع الطبخ المعروفه حاليا مع اختلافات معينه فرضتها طبيعة التطور الزمني .
.
أترككم مع فصول من هذا الكتاب النادر عن تاريخ الطبخ العراقي في الحضارات العراقيه القديمه ...
بالرغم من أهمية الطبيخ في حياة الإنسان،لكن البحث في شجونه لم يرد صريحا ومفصلا في مدونات التاريخ. وربما يعود الأمر برمته إلى الخشية من إعتباره عاكسا لسجايا نهمة وغرائز مهيمنة، تتناقض في حيثيات الأخلاق الإجتماعية مع سطوة العقل والروح التي أريد لأهل التدوين والفكر أن يسموا بملكاتها، ولاسيما لدى الفلاسفة وأهل الرأي الذين أفتوا بالأمر من خلال تسائلهم الأزلي (أنا آكل لكي أعيش أو أعيش لكي آكل؟) أو (هل بالأكل فقط يعيش الإنسان). بيد أن الأمر بدا يختلف اليوم حينما صنفت المطابخ والمأكولات كجزء هام ومميز للثقافات الوطنية، والخصوصية الحضارية ويعكس سمو الأذواق وحيثيات اللياقة،ناهيكم عن الإهتمام بالشأن الصحي والحمية، وما أنعكس منها في مقاصد (الترشيق) وما يراد منه أن يمكث الجسم نظيرا ممشوقا ينعت جمالا وشبابا دائما، وينأي عن الترهل والسمنة المعتدلة والمفرطة التي أمست من عيوب زماننا. ولهذا وغيره طفقت وسائل الإعلام تتبارى في بهرجة الأشهى والأدسم من برامج إعداد الطعام والترويج لها كونها (مرشقة) للقد.
وبزيادة نهم الإنسان فان كتب “الطبخ” اليوم أمست مادة رائجة في المكتبات، وأستقطبت المهتمين على حساب القراءات الثقافية الأخرى، مما حفز دور النشر على ترويجها. فنجد وصفات بكل اللغات ولكل المستويات ولجميع المطابخ الوطنية في الدنيا. وقد سبق أن وردتنا نتف من وصفات الطبخ في كتب التراث الإسلامي، مبثوثة في كتاب التنوخي (مشوار المحاضرة) وعند الأصفهاني في (الاغاني) ولدى ابو القاسم حسين الاصفهاني في (محاضرات الادباء) وفي كتاب ابن عبد ربه (العقد الفريد) وللجاحظ بعضها وآخرون غيرهم (1).
وهكذا وطأنا (عولمة مطبخية) تهاجنت إبانها (مطابخ) الثقافات، وأمسى الأمر من سمات التواصل الثقافي والإنفتاح على الآخر الذي شهده عالم اليوم، والذي تداعى إلى تنوع وثراء،وتمخض عن إقتباسات وتأثيرات وأنتج خلاسية (مطبخية). وثمة إعتقاد راسخ من قبل الأوربيين اليوم بأن أنفتاحهم على العوالم والثقافات البعيدة،وحلول جمهرة من المهاجرين بين ظهرانيهم، أدى إلى إثراء منظوماتهم الغذائية، وطور أذواقهم ونوعها. ونجد الأمر على المحك عند أهل الشمال الأوربي تحديدا، حينما أمست مثلا (الفلافل)و(الكباب) الأكلتين الشعبيتين الواسعتين لديهم.
وبصدد (الكباب) فأن كثير من الناس يجزم بأنها كلمة تركية أو ربما فارسية، لكن تبين بالبحث اللغوي بأن الكلمة آرامية منحدرة من الأكدية بصيغة (كبابا Kababa) ومعناها الحرفي شي اللحم على الفحم (2).وهكذا فإن كلمة (كباب) عراقية محضة دون أدنى ريب، كشفتها الدراسات اللغوية والحفرية، وربما سيكشف المزيد مثلها مستقبلا.وهكذا الحال فأن ثمة تسميات لا تحصى وردت من الآرامية كانت قد أسترسلت من السومرية وربما قبلها وأخترقت ومكثت في ثنايا العراقية حتى اليوم ومنها وليس للحصر مثلا اسم الخيار الطويل (خيار الماء) الذي يطلق عليه (الترعوزي) ويقلب أحيانا الى (التعروزي) كما هو في جل اللغات من أجل تخفيف صعوبة اللفظ. وهي واردة من الآرامية بصيغة ترعة وهي اسم قرية قرب حران وتعني ثلمة، فوهة، جدول ماء. ومثلا آخر هو كذلك كلمة شبوط (نوع من أنواع السمك) الذي يرد بصيغة (Shibuto) الآرامية، وكذلك كلمة (سماق) واللون (السماقي) الذي يعني اللون الأحمر، ونجد كذلك كلمة (كراث) وهو نوع من الخضروات (3). والأمر برمته يحتاج الى دراسات لغوية مقارنة بين العراقية الحالية واللغات القديمة.
يعتبر المطبخ العراقي، مثل الميراث العراقي، من اكثر المطابخ غنا وتنوعا في العالم، لكن مشكلته، انه بسبب الخراب الحضاري الذي مر على بلادنا في القرون الاخيرة، تم فقدان (فن تقديم المأدبة) والعناية الشكلية بتقديم الطعام.
تقاليد المأدبة العراقية
العراقيون من الشعوب التي تتمحور حياتهم حول الموائد. فمناسباتهم (الأفراح والأتراح) تعني من حيث المبدأ الاجتماع البشري حول الطعام. ويكرس الأمر على الأعم للإحتفاء والحبور ويدخل في حيثياتها المزاح والإنشراح و متعة التلاقي والتجامل والتسامر، وفي ذلك شجون و طقوس وأعراف تتلقنها الأجيال وتتناقلها.
وثمة خصوصية ومواسم لأكلات معينة،وكأن أريد لها أن لاتأكل بغيرها. فلو طبخت مثلا(الهريسة) (4) بغير عاشوراء العراقي، فليس لها نفس المذاق والطعم النفسي.ولكل طبخة أوانها اليومي، فخبز (السياح) لدى الجنوبيون لايأكل إلا صباحا، وفطيرة (الطابك) لاتأكل إلا ساخنة في الغداء. وفي سياق أكلة (الطابك) التي فحواها أن يغرس السمك بعجينة الرز وتطبخ على قاعدة طينية مسخنة، مع جمر البردي الذي يغشيها من الأعلى. وهي تحاكي أكلة (خبز العروق) واسعة الانتشار في العراق،و التي يغرس بها اللحم في عجينة القمح وتخبز بالتنور، بما يجعلنا نتسائل عن الريادة والأصل، بالمقارنة مع أكلة (البيتزا) الإيطالية، التي أمست أكلة عالمية قبل أن تغشى بالجبنة لاحقا. ولا نستغرب أن تكون إقتباسا أو تقليدا أقدم تداولا. ونتسائل هنا هل يمكن أن يروج لأكلة (الطابق) أو خبر العروق عالميا كما روج لـ(لحم بعجين) في تركيا والبلقان والتي تعتمد نفس المبدأ. وثمة الكثير من المتشابهات في أكلات الشعوب، فمثلا أخبرني أحد الأخوة الأكراد بأن تغميس الجوز بالعسل هي أكلة كردية محضة لا يرقى إلى خصوصيتها الشك،ولكني وجدتها لدى أهل جبال الكربات في رومانيا وعموم البلقان وكذلك عند أهل القوقاس، فأي منهم ياترى كان السباق ورائد ذلك التذوق.
وبصدد الأكلات العراقية الصميمة نجد المعمار العراقي رفعت الجادرجي كتب يوما عن اكلة البامية، و تعرض إلى تقليد تناولها شعبيا(5). ويعتقد العامة أن (البامية) تتناول حصرا عند العراقيين، حتى وردت في أمثلتهم الشعبية بصيغة (على اللسان بلابل، وبالمعدة قنابل) كونها تنتج الريح، ووصف بها المغرور المنفوخ إختيالا (منفوخ من الباميه). ومما يذكر في هذا السياق بان الطبقة العليا في بعض أزمنة العصر العباسي نفرت من البامية واعتبرتها طعاما غير مستحب، كونها أكلة العامة.ويذكر الجادرجي بما يمكن أن يدعى بـ(فلسفة الباميه) في كتابه (حوار في بنيوية الفن والعمارة) بفصل (الظواهر الطبيعية والاجتماعية) بان ظاهرة اكلة البامية اكتسبت مقومات تخص هوية الفرد يتم التعامل معها بموجب سلوكية مقننة وحسب معرفة وعرف محدد لذا فانها بالنسبة للفرد ظاهرة ذات سمة اجتماعية معينة، فالعراقي هويته الذاتية في هذا المجال.ومن هنا يمكن ان نحدد الشكل البنيوي للبامية، فالشكل يصور المظهر الخارجي لصيغ وتقاليد اكل البامية وهذه حصيلة التفاعل البنيوي المتبادل بين قطبين هما مادة البامية وتقنية طبخها كقطب والبامية كغذاء يشتهى ويتاق اليه كمطلب اجتماعي في القطب الاخر وذلك عن طريق الفرد المنتج اي الطباخ وظروف انتاجه ومزاجه ومهارته والذي يؤلف القطب الثالث في هذه العملية الاجتماعية معاً والمتلقي المتناول للوجبة، وهكذا يتألف التفاعل الحقيقي فرديا او اجتماعيا من قوة وطاقة ومكنة ومعرفة طبيعية وبايولوجية وقلطرية تتسم بشكل يتوافق مع تصور المصنع والمتلقي تخضع جميع الظواهر الاجتماعية التي تستهدف الانتاج باعتقادي الى تفاعل جدي يخص بنية الظاهرة ويكمن وراء هذا التفاعل ثلاثة مقررات مؤلفة من ثلاثة اقطاب تكون حصيلة تفاعلها تغير مادة معينة من حالة فيزيوكيميائية الى اخرى بهدف اشباع مطلب اجتماعي معين سيان ان خصت هذه الظاهرة الغذاء او الملبس او المأوى او اللهو اوالعبادة او غيرها من الفعاليات والمتطلبات الاجتماعية والفردية(6).
لقد عرفنا من خلال تجوالنا في الأصقاع بأن متذوقي البامية ليسوا حصرا على العراق،فهم ينتشرون في مجتمعات شتى منها الدول المجاورة أومصر وشمال أفريقيا وتسمى لديهم(كناوية أو ملوخية)، ويتذوقها أفارقة جنوب الصحراء في مالي والنيجر ونيجيريا، ويفضلوها أهل البلقان، ففي رومانيا ويوغسلافيا تعتبر من أرقى الأطعمة (الديليكاتيس) و تقدم في المناسبات الخاصة، مخلوطة مع غيرها من الخضروات، وليس وحدها.
لقد تسائل عباس بغدادي عن سر تهافت يهود بغداد على أكل (الخريط) بمناسبة أو دونها، وهم يتسابقون ويتخابرون عند حلولها في أسواق المدينة(7). والخريط حلوى ذات لون أصفر فاقع، ولها طعم ورائحة خاصة، وتصنع من طحين يستخرج من نبتة البردي وثمرها (النفاش)،التي تنمو قصرا في أهوار العراق. و الأجابة على ذلك بأن (الخريط) كان أكلة سومرية أو بابلية، أحبها يهودنا،حينما حلوا بعد السبي عام 586 ق.م في تلك الديار، وتداخل تناولها مع أعرافهم وطقوسهم الإجتماعية وأذواقهم، التي فقدت لدى البعض،ومكثت لديهم، مثلما لهجة بغداد القديمة التي أنقرضت اليوم (بعد طاعون داود باشا عام 1831) إلا عندهم وعند النصارى (البغادله)، الذين مازال لديهم تعلق وتهافت على (الخريط) على نفس المبدأ الراسخ الوارد من أعرافهم الموروثة، بينما يجهله البغداديون المنحدرون من أصول غير جنوبية.
ولكل وليمة ما يناسبها من الأدوات، ولكل طعام أنواع من الآنية. كما أن طبقات المجتمع العراقي تحرص على تقديم أنواع من الطعام دون غيرها في المناسبات كالزفاف والولادة والعقيقة والختان والتعازي،ويدخل من باب العلاجات الطبية، ففي الولادة يقدم للنفساء ماء اللحم والدجاج، وللمرضع الحلوى، وفي الوفيات تنحر الخراف أو سواها، ويبقى حساء (القيسي) يتقدم المائدة، وقد لاحظنا أن (راحة الحلقوم) تقدم لمن ينزف دما،كما في التعازي العاشورية ضنا أنها تعوضه. والحال نفسه يشمل قطع اللحم المشوي (التكة) المصنوع من كبد الأنعام.
ولكل بيئة لون من الطعام ولكل عصر أنواعه المفضلة وثمة خصوصية بالفواكه (الميوه) والخضراوات لكل بيئة، التي هاجنتها وقاربتها وروجت لها سهولة النقل وسرعته التي عمت أزمنة القرن العشرين. ومن ضمن المستجدات في مطابخنا (الطماطة) مثلا، التي لم تستقر لها كنية،فقلدنا نحن العراقيون اللفظ الأوربي-الأنكليزي (Tomato)، وبعضهم سماها (طماطم) بينما الفرس سموها (كوجه أفرنجي) والشاميون (بندوره) والرومانيون لم يجدوا له في قواميسهم سوى مايدلل على لونه فأطلق عليه (روشي) أي الأحمر، ودخلت حتى في الأمثال الشعبية فكان الشخص المتعدد المواهب والوظائف (مثل الطماطه). وبالسياق التاريخي فأن الطماطه لم تكن موجودة في العراق وغيره من البلدان حتى مطلع القرن العشرين، ويذكر الشيخ جلال الحنفي أن النساء كن يحمرن الحساء بإضافة مركز عصير الرمان(رب الرمان).والحال نفسه ينطبق على البطاطا التي وردت من ضمن إقتباسات من هنود أمريكا الحمر والعالم الجديد. (
مثلماان
مثلما كانت بابل قبلها، تحولت بغداد كذلك الى عاصمة الحضارة العالمية
، فازدهرت بها الثقافة بكل تنوعاتها، بما فيها الثقافة المطبخية، وقد برع اسلافنا كعادتهم في استيعاب ما هو جديد وصهره في الخصوصية العراقية الاصيلة..
الجذور القديمة
وبالرغم من طغيان عالم الوجبات السريعة وحمى (المكدونالد) في عالم اليوم المرافق للحداثة والعولمة والإنفتاح على الثقافة الأمريكية والغربية عموما، فأن ثمة حالة من (مابعد الحداثة postmodernism) مطبخي، يكتنف الثقافات عموما،حينما شرعت منذ عقود في الحث على إحياء خصوصياتها الغذائية، وطفق القوم يتعاملون بإعتزاز مع مفرداتهم الغذائية وطقوسهم الطبخية.ولا يفوتنا في تلك الشجون العامل النفسي وحنين الأفراد للماضي (النوستالجي) المقترن بعمر الطفولة ومرحه وفرحه، وما تناوله الإنسان في ذلك العمر في بيئته الإجتماعية. كل ذلك جعل المهاجرون من الأجيال الأولى، يسترشدون بماضيهم ويكرسون مطبخهم من ضمن سياقات الحنين للوطن. وقد تقمصت الأجيال اللاحقة الأمر من ضمن متعلقات أعراف البيت في الطفولة. وتذكر قصص التاريخ أن (الموريسكيون)، وهم أهل الأندلس الذين مكثوا بعد زوال الدولة الإسلامية على أرض أيبيريا و سقوط دولة بني الأحمر في غرناطه عام 1492م، بأنهم كانوا يمارسون تشبثهم بالإسلام من خلال طبخهم (الكسكسي) سرا،وهي أكلة مغاربية تعتمد على (السميد) كأحد معالجات القمح كما هو البرغل. وقد كرسوا طبخه أيام الجمعة تحديدا، كي لايكشف سر رسوخهم على دينهم، بعد إكراهات محاكم التفتيش ( inquisition tribunal) لهم، والتي بثت (أنوفها) أكثر من (عيونها) لتشم رائحة تلك (الطبخة) من خارج ستر الأبواب.
و ثمة إعتقاد غريب لدى جل العراقيين، بأن كل الطرائق الطبخية لديهم، كانت قد وردت من مصادر فارسية أو تركية أو شامية أو هندية، حتى كررته وتناقلته الألسن، بما أثار فضولنا، و تسائلنا،هل يمكن أن تبنى حضارات دون مطابخ مميزة،كما هو حال العراق، و دعانا الأمر إلى التقصي، كما سيرد ذلك تباعا.وربما نتفق مع البعض إلى أن (الفلافل) و(الحمص بطحينيه) و(الفول مدمس) قد وردتا مع ورود الرعيل الفلسطيني الأول القادم عام 1951 من قرى حيفا،أو ربما مع الشاميين الذي حلوا منذ بدايات القرن العشرين. وربط البعض (الفسنجون) و(السبزي) وطرائقه إلى فارس والرز (التمن) ولاسيما (البرياني) منه بالهند وتوابله(بهاراته) (9).
وهنا نورد بأن العراقيين زرعوا الرز منذ عصور غابرة، وقبل الهنود والآسيويين، وكلمة (تمن) سومرية أو بابلية. والأهم في ذلك أنهم علموا العرب أكله، هذا ماجاء بشهادة ياقوت الحموي، وهو سوري وليس عراقي حتى يُطعن بشهادته (10). فبعد استحسان العرب تمرها، وهو جماهر من جواهر، خافوا تمنها المخزون في العنابر، فظنوه سماً تركه لهم البصريون بعد إنكسارهم، وبعد تجريبه في الحصان الذي ازداد نشاطاً به فضلوه على حيسهم وثريدهم (11).
والحقيقة التاريخية التي تحتاج تأكيدها من خلال البحث العلمي تجعلنا نجزم بأن المطبخ الفارسي قد أعتمد في جذوره على المطبخ البابلي من ضمن الإقتباسات الحضارية الشاملة التي وردتهم من منظومة الحياة العراقية بعد سقوط بابل على أيدي الأخمينيين عام 593 ق.م، وتعدت وتشعبت إلى كل حيثيات الفكر والعقائد والأعراف، ووطأت الفنون والآداب والأكثر ملموسية في العمائر. وربما يحتاج الأمر البحثي في شجونه إلى بعض الفذلكة اللغوية المقارنة، حيث تبين لنا بالصدفة أن كلمة (مسكوف) التي تقترن بطريقة طبخ السمك العراقي، تعني (المخوّزق) باللغة الآرامية، والمعنى الآرامي يحاكي طريقة إعداده، وليس الأمر محض(سقف) ومنه (مسقوف)، كما يضن البعض، بما يدلل على قدم تلك الطريقة العراقية في شي الأسماك (12). ومن الملامح السومرية لأكل السمك الماكث حتى اليوم، والذي يُعاب عليه أهل جنوب العراق بأنهم مغرمون بأكل السمك اليابس المسموط بالماء المغلي، وهو عند أهله ألذ طعام في الدنيا، وهو ما سماه الجاحظ القادم من هذه البيئة (بالسمك المشنوق)، أي المجفف على الحبال تحت وهج الشمس (13).
أما الأتراك كتجمعات فاعلة في التاريخ فقد حلوا في الشرق القديم ليس بأقل من 12 قرنا بعد صعود نجم الفرس،واقاموا على تخوم النهرين ، وبعضهم ولج أرضه (نقصد التركمان) وأصبح جزءا صميما من ثقافته وطيفه السكاني،بالرغم من أن ثمة نظرية تقول أن السومريين كانوا من ضمن الشعوب التركمانية من خلال معطيات لغتهم (المقطعية). وهكذا تماس الأتراك القادمون من الشرق ووسط آسيا و(طوران) مع أهل فارس في رحلتهم، قاصدين آسيا الصغرى والبلقان. وهكذا أمست تلك الأصقاع أوطانهم وأقترنت بهم منذ حوالي ثمانية قرون. لكن تسنى لهم في ذلك الشوط الطويل، أن يجلبوا من الفرس والأوزبك والطاجيك والتتر، ما أستساغ لأذواقهم، حتى أن الفنون السلجوقية كانت تركية الكنية والذوق،لكنها عراقية- فارسية الجذور،كون تلك الأقاليم تبقى الهالة الأولى للتأثيرات الحضارية العراقية. ثم حدث أن أستقر الأتراك في الأناضول ثم البلقان، وأقتبسوا مطايب وطبيخ الهيلينيين والأرمن والقوقاسيين والبلقانيين، التي كانت نكهتها شرقية أصلا منذ أمد الحيثيين والآشوريين وما تبعهم من إقتباسات مقدونية أيام الأسكندر، وكذلك أتروسكية- رومانية ثم بيزنطية، تراكمت كلها لتضيف ثراء فوق ثراء، ليمسي المطبخ التركي من أغنى مطابخ الدنيا اليوم (14).
بعض كتب المختص (النهريني ـ ميزوبوتامي) الفرنسي الكبير، الصادرة بالفرنسية والانلكيزية..
اسلافنا والمطبخ
من المعلوم بأن ثراء المطبخ وتنوعه يرتبط عضويا مع تنوع الملامح الحضارية للشعوب، أي أنه يعكس حالة الرخاء والعافية، وربما البطر في بعض ملامحه، الذي يرافق ظاهرة الترف الحضاري. وعلى العكس من ذلك فأن البداوة تعتبر مجدبة (مطبخيا)، حيث أن التنقل والترحال،يحول دون تطوير تلك الملكات، بما يتعلق بنقل الأدوات والعدد والوسائل التي تشكل عبئا في الترحال، ناهيك عن الأناة وطول البال، الذي يبقى من صفات الإستقرار والحضارة والحال. وهكذا فأن الأتراك والعرب والأكراد والتتر وكل الشعوب التي مارست البداوة والرعي، لم يطوروا مطابخهم،وأكتفوا بما يمكن أن يقّوم الحياة ويديم العيش ويضمن البقاء، ومكثت تلك الشعوب تشتر “حتى بعد تحضرها” من شحيح المفردات الطبخية الماضوية، ولاسيما المشويات وطرائق إستخراج مشتقات الحليب.
وهكذا فأن الطعام مرهون بسمو الحضارة وتشعب شجونها.وهذا ما يجعلنا نتسائل،هل أن الحضارات العراقية المتعاقبة: (العراقية القديمة، ثم الآرامية المسيحية، ثم الاسلامية العباسية..)، لم يكن لها مايميزها(مطبخيا)؟. فمن أقدم الأزمنة أظهرت بعض الدراسات الحفرية (الأركيولوجية) المستندة على نصوص واردة من رقم طينية بأن أهل بابل كان لهم مئة نوع من الشوربة (الحساء) وثمانية عشر نوع من الأجبان، وثلاثمائة نوع من الخبز المصنوع من أنواع مختلفة من الدقيق،بنكهات وألوان وأشكال مختلفة، تتراوح بين شكل القلب حتى شكل ثدي المرأة،وربما يكون (الطابق) “الشرقاوي” إحدى بقاياها الماكثة في الزمان والمكان (15).
كل تلك المعطيات العلمية نشرتها جامعة (ييل) في الولايات المتحدة عام 1985، بالاستناد إلى مدونات مسمارية وردت باللغة الأكدية، تعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد أي قرن أو دونه قبل عهد حمورابي، وقرن أو أكثر بعد زمن إبراهيم الخليل (ع). وقد ذهب الباحثون في الوهلة الأولى إلى كونها وصفات لأدوية وعقاقير طبية، لكن حدث أن دقق النظر بها العالم الفرنسي (جان بوتيرو)، حينما أكتشف أنها كتب ووصفات للطبخ، مثلما تسرد تفاصيلها في مطبوعات اليوم.
وبوتيرو الفرنسي هذا من الضليعين بالآشوريات، التي أنتقل إليها من الدراسات اللاهوتيه، وله اهتمام شخصي بالمطبخ والأكلات والمطايب. وقد دون ملاحظاته كونها تحمل في طياتها ثراءا في التنوع والذوق الرفيع(الديليكاتيس)،وتتصف بلذتها ودقة إعدادها ومقاديرها بما يدعوا إلى العجب العجاب.حيث نقشت 25 نوعا من الوصفات الغذائية، وحرصت بدقة على ذكر أنواع التوابل التي ترش على اللحوم المشوية، المتكونة عادة من لحم الوعل والغزال والجدي والحمل(القوزي) والخروف، وكذلك اللحوم البيضاء كالحمام والدجاج وأنواع الطيور. وقد وصف نوع وطعم وميزات إعدادها،إن كانت ناضجة قليلا أو كل النضج، بحسب المشتهاة. وقد وردت طريقة رش اللحوم بفتات الخبز والثوم والبصل والكراث والنعناع وزيت العرعر والحشائش والتوابل التي لا تتطابق تماما مع توابلنا اليوم، ونجد منه ما نعرفه الخردل والكزبرة والكمون مثلا. ومن الطريف أنها كتبت دون تحديد كمياتها التي يعتمدها الطاهي بحسب عدد الأشخاص. ومنها من كان وصفا مقتضبا للهواة، بحيث تذكر العناصر الرئيسية للطبخة،كما هي مستويات كتب الطبخ اليوم (16).
وقد سبق أن بحث في الأمر لدى قدماء المصريين من خلال بقايا ما خزن في القبور من غلال. لكن لم يجد مختصي المصريات في مدونات البردي الهيروغليفية أي إشارة إلى ذلك أو نوع الأطعمة الرائجة لديهم تفصيلا. وهكذا يمكن اعتبار المدونات الأكدية الأكثر أهمية في تاريخ الدنيا،لريادتها أولا وبسبب ضياع جل المدونات التي تلتها ولاسيما لدى اليونان والرومان بعد ألف ونيف ومن السنين. ونجد منها مثلا ما جمعه أثيتايوس النوكراتسي العائدة إلى القرن الثاني قبل الميلاد في كتاب بعنوان (المائدة الغنية). وبعد ذلك نجد لدى بيزنطه أو روما، مدونة أبيسيوس الروماني (فن الطهي) العائدة إلى القرن الرابع بعد الميلاد، و الذي يستدل منها على نهمه و إهتماماته (المطبخية).
لقد عثر الآثاريون أخيرا على وصفات أجدد عهدا في العراق القديم، تعود للحقبة البابلية، وتتعلق بطبيعة الأكل وشجون المطبخ، ويذهب الباحثون بأنها وردت مسترسلة من السومرية من خلال الأكدية حتى تداولها أهل بابل.وقد وجد من ضمن اللقى على 24 رقم طيني مختص بهذا المجال مثلما يحاكي المعجم المقارن، حيث يورد المقابلات الاصطلاحية باللغتين الأكدية والسومرية السابقة لها. وأستشف من حيثياتها على 800 نوع من المأكولات والمشروبات، والظاهر أن ثمة أجزاء مفقودة من تلك القوائم، لتطول أن أكتمل نصابها. (17)
لقد شملت أكلات البابليين على أصناف لحوم الحيوانات البرية والداجنة، وكذلك الأسماك والسلاحف والهلاميات والحبوب بأنواعها والخضر والفطر. ونجد من ضمن تلك السياقات نص يشرح كيفية حشو المصران، ولعله أول نص يصف به النقانق أو السجق (الباسطرمة) التي يعتقدها العامة بأنها تركية بحسب التسمية. وثمة نقش يظهر شخصا يحمل صحنا حبوب الرمان وجنادب حادة. ومن الطريف أن كبار الطهاة (الشيف) من العراقيين القدماء كانوا من الرجال، وذكر تفاصيل عن الولائم التي كانوا يشرفون عليها والتي يقيمها الميسورون من أهل المدن العراقية وخاصة بابل، وكيف شملت على مالذ وطاب وغلى ثمنه. أما النساء فقد أضطلعن بالطهي العادي في المساكن، وربما حاكين أساطين الحرفة من الرجال.
كتاب انكليزي رسوم توضيحية للفتيان عن الحضارة العراقية
وفي مجمل شرحه لم ينسى (بوتيرو) أن ينصح طهاة اليوم أن يجربوا بعضا مما تناوله العراقيون القدماء، بالرغم من تحذيرة أن الأمر يحتاج أناة وتجارب تتعلق بضبط المقادير والتحذلق من أجل اكتشاف الحيل التي أتبعوها طباخي الأمس. و تمنى أن يحضر أحد طهاة بابل ليبدع لنا ما نفتقده اليوم. بالرغم من أنه رصد من حيثيات النصوص بأن العراقيين القدماء كان لهم أذواق أخرى لا تحاكي أذواق الناس اليوم، حينما تعلقوا بالأطعمة المغمسة بأنواع الزيت والدهن، ولم يهتموا بالملح الذي يكاد يكون معدوما.
وبعد أن كشف حفريا عن أن البابليون هم رواد تداول الجعة (البيره)، ووردت في جل قصائدهم، وكان لديهم أكثر من ثلاثين صنفا منها بكحول وبدونه وكوصفات طبية شتى، وربما تعود ريادتها لأزمنة عراقية أقدم. و ستكشف لنا الأيام الكثير من خصوصيات الثقافة العراقية،كل ذلك مرهون بمعطيات ما سيكتشف أو يستعاد من عاديات، أو ربما من سياقات قراءة المليون رقم طيني ونيف من الآثار العراقية المشتتة اليوم في أدراج ورفوف ومعروضات متاحف العالم أو المخفية عند سراق الآثار أو تقبع في أسرار المتكتمين عليها مثل الجهات المتحفية في (تركيا) (18).وسوف يميط ذلك اللثام عن شجون من طبيعة الحياة العراقية، وربما سيوصلنا إلى دحض ما روج له الغربيون في أصول الأشياء من أثينا وروما ومن ثم فارس. وربما يكمن هنا سبب التكتم والمعاداة والمواربة في كشف خفايا تواريخنا.
هوامش
1. باسم عبد الحميد حمودي- مقال (المطبخ والثقافة الشعبية) جريدة المدى العدد 466 17-8-2005
2. هكذا هي واردة في (قاموس جاسترو) المرجعي بالآرامية ص 606،تحت حرف الكاف بصيغة (Charing the meat).
3. برسوم البطريرك أفرام الأول_الألفاظ السريانية في المعاجم العربية – حلب 1984.
4. لكلمة هريسة شجون، فهي تعني ماهرس وطحن ففي تونس تعني المهروس من الفلفل الحار (الشطه)، وفي فلسطين تعني أكله (البسبوسه)، أي حلاوة السميد،بينما في العراق تعني حساء تخلط به عدة أنواع من الحبوب الجافه يقال سبعة أنواع (للتبرك بالرقم)، وتطبخ على نار هادئه، وتوزع في يوم عاشوراه.
5. ورد ذكر الباميه عدة مرات لدى رفعت الجادرجي عندما تحدث عن أبيه السياسي كامل الجادرجي في كتابه “صورة أب”، الذي صدر في الثمانينيات من القرن الماضي، والذي طرق فيه تولع أبيه بهذه الأكلة.وورد في كتابه “حوار في بنيوية الفن والعمارة”، الذي صدر في التسعينيات عرض وصفات طبخ البامية.
الموضوع من اعداد ليلى السراج